+
أأ
-

ليث القهيوي يكتب :- دبلوماسية على حافة الانكسار: الشرق الأوسط بين التهدئة والتصعيد

{title}
بلكي الإخباري

 

مع نهاية عام 2025، يتقدم الشرق الأوسط بوصفه ساحةً تتكثف فيها السياسة والجغرافيا والاقتصاد في معادلة واحدة: توازن قوى لم يعد ثابتًا ولا ثنائيًا، ودبلوماسية تعمل تحت ضغط الوقت بدل أن تصنعه. المنطقة اليوم ليست مجموعة أزمات منفصلة، بل شبكة مترابطة؛ أي ارتجاج في غزة أو البحر الأحمر أو اليمن لا يبقى محليًا، بل يتحول سريعًا إلى أثر عالمي عبر سلاسل الإمداد، وكلفة الشحن والتأمين، وأسعار الطاقة، والتضخم، وكلفة التمويل. في هذا السياق، تقل قدرة التسويات التقليدية على الصمود لأن بنية الصراع نفسها تغيرت: اتسعت دائرة الفاعلين القادرين على التعطيل، وازدادت قيمة "نقطة الاختناق" والممر البحري والقرار التكتيكي الصغير، بينما باتت إدارة المخاطر اليومية هي القاعدة لا الاستثناء.

 

 

في القلب، يبقى الملف الفلسطيني الإسرائيلي محرك الإيقاع الإقليمي. وقف إطلاق النار في غزة الذي دخل حيّز التنفيذ ظهر 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2025 لم يتحول إلى نهاية سياسية، بل إلى صيغة "خفض قتال" تُدار فوق أرض ملغمة بأسئلة اليوم التالي: من يحكم؟ من يملك السلاح؟ ما شكل الترتيبات الأمنية؟ كيف يتم الانسحاب؟ وكيف تُدار إعادة الإعمار؟ هنا تتضح مشكلة الاستقرار المؤقت: عندما تؤجل ملفات الانفجار، تصبح الهدنة قابلة للانكسار عند أي احتكاك، لأن الأطراف تتعامل مع التهدئة بوصفها مرحلة تفاوضية لتحسين الشروط لا بوصفها بداية مسار سياسي ملزم. وتزداد الهشاشة حين تُطرح فكرة بقاء عسكري طويل الأمد داخل غزة باعتبارها متطلبًا أمنيًا؛ فهي تُثقل منطق الانسحاب المرحلي، وترفع الكلفة السياسية لأي تسوية نهائية، وتحوّل "الأمن" إلى تعريف متنازع عليه لا إلى نقطة اتفاق. النتيجة أن العالم يتعامل مع “إدارة أزمة” أكثر مما يتعامل مع "حل نزاع"، وأن المفاوضات تُقاس بقدرتها على منع الانزلاق لا بقدرتها على إنهاء الحرب.

هذا الانحباس السياسي ينعكس مباشرة على الاقتصاد والإعمار. تقديرات كلفة التعافي وإعادة الإعمار الضخمة لا تُترجم تلقائيًا إلى مشاريع على الأرض، لأن المال هنا مشروط بالسياسة: حوكمة قابلة للثقة، قدرة تنفيذ، أمن مواقع، ومسار يضمن ألا تتحول إعادة البناء إلى إعادة إنتاج للصراع. وفي غياب حسم الأسئلة الكبرى، يصبح التمويل مجزأً ومحكومًا بالحذر، وتتسع مساحة الاعتماد على المساعدات، وينمو اقتصاد الظل، وتتحول عملية الإعمار نفسها إلى ساحة تنازع على الشرعية والنفوذ. وعند هذه النقطة، يتبدى خطر إستراتيجي: كلما طال أمد "التهدئة بلا أفق"، زادت الكلفة الإنسانية والاجتماعية، وازدادت احتمالات أن تعود الأزمة في صورة أعنف، لأن عوامل التفجر لا تعالج بل تتراكم.

على الضفة الأخرى من المعادلة، يبرز البحر الأحمر باعتباره الجسر الذي وصل الإقليم بالعالم بصورة لا تسمح للفصل. اضطراب الملاحة وارتفاع كلفة التأمين وتعديل مسارات الشحن جعلت أمن الممرات البحرية جزءًا من الصراع السياسي لا مجرد شأن بحري. هنا تظهر قوة جديدة في اللعبة الإقليمية: "قدرة التعطيل" التي تمنح فاعلين غير دوليين وزنًا تفاوضيًا يتجاوز حجمهم، وتدفع الدول إلى إعادة تعريف الأمن القومي ليشمل الشحن والتأمين واللوجستيات. الاستجابة لم تعد عسكرية فقط، بل مزيج من الردع البحري وبناء البدائل: مسارات أطول، ممرات برية، احتياطيات، وتكيف الشركات مع مخاطر مزمنة. لكن المعضلة أن الردع وحده لا يغلق الملف طالما بقيت هجمات الملاحة جزءًا من حسابات تفاوضية أوسع، تربط البحر بالبر والاقتصاد بالسياسة، وتحوّل كل سفينة إلى رسالة وكل مضيق إلى ورقة ضغط.

في هذه البيئة، تتبدّل التحالفات لا على قاعدة الولاءات الصلبة، بل على قاعدة "تأمين الخيارات". الخليج يميل إلى توزيع الرهانات: شراكة أمنية مع واشنطن، انفتاح اقتصادي وتقني مع بكين، وتهدئة محسوبة مع طهران. هذا ليس تناقضًا بقدر ما هو استجابة عقلانية لعالم متعدد الأقطاب، حيث لا تستطيع دولة واحدة أن تقدم كل شيء: المظلة الأمنية، والأسواق، والاستثمار، والتكنولوجيا، والوساطة. إدخال الصين إلى مسارات التهدئة الإقليمية يرمز إلى انتقال الدبلوماسية من احتكار قطب واحد إلى منافسة أدوات: النفوذ التجاري يتحول إلى نفوذ سياسي عبر صيغ متابعة مؤسسية. لكن التحالفات المرنة تحمل هشاشتها في داخلها، لأنها تعيش على توازنات دقيقة بين الشركاء وبين حسابات الداخل. المثال اليمني يوضح أن الترتيبات قد تنكسر من داخل المعسكر نفسه قبل أن تنكسر مع الخصم؛ فحين تتعدد خرائط النفوذ داخل الكيان السياسي الواحد، تصبح وحدة القرار ضعيفة، ويغدو أي اتفاق عرضة لنسف داخلي، وتتحول الوساطات المتعددة إلى نشاط شكلي يفتقر إلى “رافعة” جامعة تفرض حوافز وعقوبات واضحة.

الطبقة الأعمق، التي كثيرًا ما تُهمل في قراءة الصراعات، هي طبقة المناخ والاقتصاد. المناخ ليس خلفية صامتة، بل مُضاعِف للأزمات: حرارة أعلى، ضغط على المياه، تراجع في إنتاجية الزراعة، كلفة تبريد وطاقة أعلى، أعباء صحية، وتوترات اجتماعية أكثر قابلية للاشتعال تحت وطأة الغلاء والبطالة. وحين تتقاطع هذه الضغوط مع صدمات الشحن أو ارتفاع كلفة الطاقة أو تعطّل الاستثمار، تتسع دائرة الهشاشة، ويصبح أي تصعيد أمني قادرًا على تحويل الضغط المعيشي إلى اضطراب سياسي. ورغم تحسن نسبي في مؤشرات النمو الإقليمي خلال 2025، يبقى هذا التحسن محاطًا بعدم اليقين العالمي وبمخاطر مائلة للهبوط إذا طال أمد الصراع أو تكررت صدمات الممرات البحرية.

انطلاقًا من ذلك، يبدو أن 2026 أقرب إلى مسار “استقرار متقطع” لا إلى سلام شامل ولا إلى انفجار حتمي. الاستقرار المتقطع وهو نمط من التهدئة الهشة تدار فيه الأزمات دون حل جذري، عبر تهدئات موضعية ومفاوضات مجزأة وفترات خفض تصعيد مؤقتة تتخللها انتكاسات مفاجئة، بما يمنع الانفجار الشامل لكنه لا يمنع عودته ، مع قابلية دائمة لانتكاسات مفاجئة في غزة أو البحر الأحمر أو ساحات الوكلاء. وهو مسار يفضله كثيرون لأنه يقلل كلفة الحرب المباشرة، لكنه يحمل في طياته مشكلة: إدارة الأزمات دون حلها تخلق اعتيادًا على الحد الأدنى، وتُدخل المنطقة في اقتصاد مخاطرة مزمن، وتمنح الأطراف مساحة للتموضع بدل إنهاء الصراع. السيناريو الإيجابي يتطلب قفزة مركبة لا قفزة أحادية: إطار سياسي عملي لليوم التالي في غزة يربط الأمن بالإغاثة والإعمار ضمن حوكمة انتقالية مقبولة، ترتيبات إقليمية واقعية لأمن الملاحة تقلل الابتزاز الجيو-اقتصادي وتفصل التجارة عن التصعيد، وتفاهمات ردع وتهدئة تمنع انتقال الصراع من الوكالة إلى المواجهة المباشرة. نجاح هذا السيناريو يحتاج أيضًا إلى معادلة حوافز واضحة: مكاسب ملموسة للالتزام، وخسائر مؤكدة للخرق، لأن الهدنة التي لا تُحمى بآليات تنفيذ ومراقبة ومساءلة ستظل رهينة المزاج والتقدير الخاطئ.

أما السيناريو الأخطر فيكمن في خطأ حسابات عند أحد المضائق أو على خطوط التماس، أو في تصعيد متسلسل يبدأ بحادث محدود ثم يتدحرج بفعل ضغط الرأي العام، وحسابات الردع، وتضارب الأجندات داخل التحالفات نفسها. هذا النوع من التصعيد لا يحتاج قرارًا بالحرب بقدر ما يحتاج سلسلة قرارات قصيرة تتخذ تحت الضغط. وإذا وقع، ستكون فاتورته مركبة: ارتفاع كلفة الطاقة والشحن، تشدد مالي، تباطؤ نمو، وتفاقم هشاشة اجتماعية في اقتصادات لا تملك هوامش واسعة، ما يفتح الباب لاضطرابات تمتد آثارها خارج الحدود.

الخلاصة الإستراتيجية أن الشرق الأوسط دخل مرحلة توازن متحرك: التحالفات صفقات قابلة لإعادة التفاوض، والقدرة على التعطيل أصبحت عملة نفوذ، والدبلوماسية لن تنجح إذا بقيت تركض خلف الوقائع. معيار النجاح في 2026 لن يكون "صناعة سلام كامل" بقدر ما سيكون بناء مرونة شاملة: تنويع الشركاء دون خلق عداوات مجانية، تحصين الداخل اقتصاديًا ومناخيًا لتقليل أثر الصدمات، وربط التهدئات بمسارات سياسية قابلة للتنفيذ قبل أن تفرض الجغرافيا والحرارة وكلفة الشحن شروطها على الجميع. في عالم تتداخل فيه الأزمات، من يملك القدرة على إدارة الترابط لا إدارة ملف واحد هو من يملك فرصة تحويل عام المخاطر إلى عام فرص محسوبة