+
أأ
-

ليث القهيوي يكتب :- الشباب لا يطالبون بالمستحيل.. بل بالعدالة

{title}
بلكي الإخباري

 

ليس من الدقة، ولا من الإنصاف، اختزال مطالب الشباب في خانة الطموحات المبالغ بها أو التوقعات غير الواقعية. ما يطلبه هذا الجيل، في جوهره، ليس امتيازات إضافية ولا قفزًا على الممكن، بل حدًّا أدنى من العدالة في الفرص، وفي القرار، وفي توزيع الكلفة والعائد. وحين تتكرر حالة الإنصات دون استجابة، والتشخيص دون فعل، تتحول العدالة من قيمة دستورية إلى سؤال سياسي واقتصادي مؤجل، يدفع ثمنه المجتمع بأكمله، لا فئة واحدة فقط.

 

في الأردن، تُستعاد الصورة النمطية كلما ارتفع صوت الشباب: «يريدون كل شيء بسرعة»، أو «لا يرضون بالمتاح»، أو «ينقصهم الانضباط». غير أن هذا التوصيف يتجاهل تفاصيل يومية قاسية؛ خريج يبدأ مساره بتدريب غير مدفوع، ثم ينتقل إلى عمل مؤقت بلا ضمانات، قبل أن يصطدم ببوابات توظيف لا تُدار دائمًا بشفافية. وفي المقابل، يُطلب منه أن ينافس على الفرص نفسها وهو يحمل كلفة تعليم وتنقل وسكن ومعيشة تتغيّر أسرع من الأجور.

حين يقول شاب إنه يريد «فرصة عادلة»، فهو لا يطلب مقعدًا محجوزًا، بل ملعبًا متكافئًا: إعلان وظائف واضح، منافسة تقوم على الكفاءة لا الواسطة، ومسارًا مهنيًا يمكن التخطيط له من دون مفاجآت تشريعية. وحين تطالب شابة بمكانها في سوق العمل، فهي لا تطلب استثناءً، بل حماية من التمييز، وبيئة عمل آمنة، وخدمات داعمة تجعل المشاركة ممكنة لا نظرية.

المؤشرات التي ترصدها المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية حتى من دون تعدادها تشير إلى ضغط متراكم: اتساع فجوة البطالة بين الشباب، تراجع القدرة الشرائية، وتزايد الإحساس بأن التعليم لم يعد جسرًا مضمونًا نحو الاستقرار. ومع كل موسم تخرج، تتكدس السير الذاتية أكثر مما تتوسع فرص التوظيف، فتظهر مفارقة صلبة: مجتمع يستثمر في التعليم، لكنه لا يضمن عائدًا عادلًا على هذا الاستثمار لأصحابه.

وتنعكس أزمة العدالة أيضًا في توزيع الكلفة والعائد. فالشباب يؤسسون حياتهم في ظل ارتفاع كلفة السكن والنقل والطاقة، بينما تتأخر أدوات الحماية الاجتماعية عن مواكبة أنماط العمل الجديدة؛ من العمل الحر، إلى المنصات الرقمية، إلى العقود القصيرة. وعندما تُدار الإصلاحات المالية من دون حساسية كافية للإنصاف، يتشكل انطباع خطير بأن الفاتورة تُحمل للأضعف، وأن العائد لا يعود بالتساوي.

هذه الفجوة لا تُفسر بكسلٍ مزعوم، بل ببنية سوق عمل لا تكافئ الاجتهاد بما يكفي، وباقتصاد يُنتج وظائف أقل مما يتطلبه النمو السكاني، وبقطاع غير منظم يتوسع على حساب الأمان الوظيفي. وتتجلى كذلك في توزيع غير متوازن للفرص بين المحافظات، وفي صعوبة الوصول إلى تمويل عادل للمشاريع الصغيرة، وفي سياسات تدريب تُراكم الدورات أكثر مما تفتح الأبواب.

الأخطر أن انسداد الأفق لا يبقى اقتصاديًا فقط؛ بل يتحول إلى تآكل في الثقة. حين لا يرى الشاب علاقة واضحة بين الجهد والنتيجة، وبين الالتزام والمكافأة، يصبح الانتماء نفسه سؤالًا عمليًا: لماذا أبقى؟ ولماذا أخاطر؟ هنا تتقدم الهجرة كخيار منطقي، لا كترف، وتخسر الدولة خبرات كان يمكن أن تقود قطاعات جديدة في التكنولوجيا والخدمات والصناعات الخفيفة.

والعدالة في الفرص لا تنفصل عن العدالة في القرار. فالشباب يريدون أن تُسمع تجاربهم في السياسات التي تمس حياتهم: في التعليم والتدريب، في النقل العام، وفي أولويات الاستثمار المحلي. إشراكهم لا يعني تجميل الاجتماعات بوجوه شابة، بل فتح مسارات مؤسسية للمساءلة، ونشر بيانات الأثر، وتقييم البرامج علنًا: ما الذي نجح؟ وما الذي لم ينجح؟ ولماذا؟

ما المطلوب إذن؟ ليس بيانات جديدة، بل قرارات قابلة للقياس يمكن مساءلتها: شفافية مُعلنة في التوظيف العام، حوكمة واضحة وملزمة لمعايير التعيين، وربط فعلي للتدريب بالتشغيل عبر شراكات مستدامة مع القطاع الخاص، لا برامج قصيرة العمر تنتهي بانتهاء التمويل. فمن دون جداول زمنية معلنة ومؤشرات أداء قابلة للنشر، تبقى هذه القرارات وعودًا حسنة النية لا سياسات عامة. المطلوب أيضًا فتح المشتريات الحكومية أمام الشركات الناشئة بشروط عادلة يمكن تتبّع أثرها، وتسهيل الائتمان للمشاريع الصغيرة وفق معايير إنصاف لا تقدير، وتحديث شبكات النقل والخدمات في الأطراف لتقليل «ضريبة الجغرافيا» على الفرص. والأهم إشراك الشباب في صياغة الأولويات قبل اتخاذ القرار، لأن المشاركة اللاحقة لا تغير النتائج. فأي تقاعس الآن لن يُمحى لاحقًا من سجل الأداء، ولن يكون مجرد تأجيل، بل كلفة متراكمة على الاستقرار والثقة.

فالعدالة هنا ليست تنازلًا سياسيًا، بل استثمار وطني في الاستقرار والإنتاجية.

العدالة التي يطالب بها الشباب ليست شعارًا فضفاضًا، بل اختبار حقيقي لقدرة الدولة على تجديد أدواتها قبل أن تُفرض عليها التغييرات من خارج إرادتها. فالتاريخ لا يعاقب الدول التي تخطئ بقدر ما يعاقب تلك التي تُصرّ على التأجيل رغم وضوح المؤشرات. والقرار، في هذه اللحظة تحديدًا، لم يعد بين خيارين متناقضين، بل بين فعل إصلاحي واعٍ اليوم، أو إدارة كلفة أكبر غدًا. فالشباب لا يطلبون المستحيل، لكنهم أيضًا لن يقبلوا بأن تكون العدالة وعدًا مؤجلًا إلى أجل غير معلوم.