د عاطف نايف زريقات يكتب :- المال ...حين يدير السياسه ويُخرج الإعلام عن دوره ويوجه وعي الشعوب

ليس إنكار أهمية المال موقفاً أخلاقياً بل غالباً ترفٌ فكري لا يملكه إلا من لم يختبر أثره الحقيقي فخارج خيار الزهد الطوعي والانقطاع عن العالم لا يمكن فهم السياسة أو الإعلام أو حتى مسار الأفكار بمعزل عن المال بوصفه الأداة الأهم في صناعة القرار وتوجيه الوعي .
في عالم اليوم لم تعد السلطة تُمارَس فقط عبر الجيوش أو القوانين بل عبر التمويل . لأن المال هو ما يمنح السياسة صوتها ويحدد سقفها ويرسم حدود المسموح والممنوع ٠ والأحزاب لا تنهض بالأفكار وحدها بل بقدرتها على تمويل حضورها واستمرارها وحمايتها ومع الوقت يتحول الممول من داعم إلى شريك ثم إلى صاحب قرار غير معلن .
حتى الدول التي تُقدَّم كنماذج ديمقراطية باتت أسيرة هذا الواقع فالحملات الانتخابية تُدار كاستثمارات والمرشح الناجح هو من يجذب رأس المال قبل أن يجذب الناخبين . أما السياسات العامة فتُصاغ غالباً بما لا يضر مصالح الشركات الكبرى واللوبيات المالية لا بما يحقق العدالة الاجتماعية أو المصلحة العامة. هنا لا يُقمَع الرأي المخالف بالقوة بل يُحاصَر بتجفيف مصادر تمويله ٠
أما الإعلام فقد شهد التحول الأخطر من سلطة رقابية يُفترض أن تكشف الحقيقة إلى صناعة تُدار بمنطق السوق والتمويل . المال لا يفرض الكذب دائماً لكنه يفرض الانتقاء أي خبر يُنشر وأي تحليل يُبرَز وأي صوت يُستضاف وأي قضية تُغرق في الهامش وبهذا لا يُزوَّر الواقع بشكل فج بل يُعاد ترتيبه بما يخدم أصحاب النفوذ ٠
هذا التحالف بين المال والسياسة والإعلام لم يكن عرضياً بل أصبح أحد أعمدة النظام العالمي المعاصر . الحروب الحديثة مثال صارخ لا تبدأ فقط بقرار سياسي أو مصلحة عسكرية بل تُمهَّد بسردية إعلامية ممولة تعيد تعريف العدو وتُبرر العنف وتُخدّر الرأي العام ٠ السلاح يقتل لكن الخطاب الممول يشرعن القتل ٠
في العالم العربي تتجلى هذه المعادلة بوضوح أشد لقد لعب المال دوراً مركزياً في إعادة تشكيل المشهد السياسي والإعلامي خلال العقد الأخير قنوات ومنصات تُغيّر خطابها بتغير الممول وأحزاب وحركات تُعدِّل أولوياتها وفق مصادر الدعم . الكثير من التحولات لم تكن نتيجة مراجعات فكرية ناضجة بل انعكاساً مباشراً لتبدل خطوط التمويل .
وهنا يصبح الاستقلال السياسي شعاراً فارغاً ما لم يُدعَم باستقلال مالي . فالموقف الذي لا يملك قدرة الصمود اقتصادياً يتحول سريعاً إلى موقف هش قابل للتطويع أو الإلغاء لا لأن الفكرة خاطئة بل لأن كلفة الدفاع عنها أعلى من قدرة أصحابها ٠
في الحالة الفلسطينية يتخذ المال بعداً أكثر قسوة ٠ فالتمويل المشروط لم يؤثر فقط في القرار السياسي بل في تفاصيل الحياة اليومية الرواتب الإعمار الإغاثة وحتى الخطاب العام ٠ وهنا لا يُستخدم المال كأداة دعم إنساني محايد بل كوسيلة ضغط ناعمة لإعادة ضبط السقف السياسي وإدارة الصراع لا حله ٠
من هنا لا تبدو مقولة من يملك المال يملك القرار مبالغة أو حكمة شعبية بل توصيفاً دقيقاً لبنية السلطة في عالم اليوم . المال ليس شراً بذاته لكنه يصبح خطراً حين يتحول إلى سلطة غير مرئية لا تُحاسَب ولا تُنتخب ولا تُسأل عَمّا تفرضه من خيارات ٠
المشكلة ليست في وجود المال بل في غياب الشفافية وفي تحالفه غير المعلن مع السياسة والإعلام ضد المجتمع فحين يُشتَرى القرار وتُموَّل الرواية وتُدار الحقيقة وفق المصالح يصبح الوعي نفسه ساحة صراع .
التحدي الحقيقي لا يكمن في مهاجمة المال أو تمجيده بل في كشف مساراته وفضح شروطه وفصل السياسة عن الارتهان المالي والإعلام عن التمويل الموجَّه ودون ذلك ستبقى الديمقراطية شكلاً والإعلام واجهة والقرار بيد من يدفع أكثر لا من يملك الحق ٠
















