المحامي طارق ابو الراغب :- قبل ان ندفع ثمن الصمت حين يُختطف الوعي وتُشوَّه الحقيقة

لم يعد الرأي العام في عصر المنصات الرقمية نتاجًا طبيعيًا لتفاعل المجتمع مع القضايا العامة، بل تحوّل في كثير من الأحيان إلى منتج مُصنَّع، يُدار ويُوجَّه ويُضخَّم وفق أجندات لا تعبّر عن وجدان الدولة ولا عن المزاج الحقيقي للناس.
وفي الحالة الأردنية، حيث تُعدّ متابعة مواقع التواصل الاجتماعي من الأعلى إقليميًا، باتت هذه المنصات المصدر الأول لاستهلاك الأخبار واستقراء المواقف، وهو ما جعلها ساحة مفتوحة لاختطاف الوعي العام.
أولًا: اختطاف الرأي العام لا تمثيله
تتصدر المشهد مجموعات منظمة لا تمثل الغالبية الصامتة من الأردنيين، لكنها نجحت عبر الضجيج الرقمي في الظهور كأنها الصوت الأعلى. هذه الفئات لا تُنتج رأيًا عامًا، بل تُصادره، عبر إعادة تدوير خطاب واحد، وإقصاء أي رأي مختلف، ووصمه بالخيانة أو العمالة أو الانحراف عن “الحق”.
ثانيًا: التضخيم الانتقائي وتشويه الصورة الوطنية
من يتابع المشهد الإعلامي الرقمي يلحظ نمطًا ثابتًا:
تضخيم الأخبار السلبية، ولو كانت هامشية أو غير مكتملة.
تغييب الإنجازات الوطنية أو التقليل من قيمتها.
التشكيك الممنهج بمواقف الدولة الأردنية الخارجية والداخلية، حتى في أكثر الملفات وضوحًا واتزانًا.
ضرب الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة، لا عبر النقد المسؤول، بل عبر زرع الشك والريبة والتخوين.
وهنا لا نتحدث عن معارضة سياسية مشروعة، بل عن خطاب هدّام لا يقدّم بديلًا، ولا يسعى للإصلاح، بل يتغذّى على الفوضى المعنوية.
ثالثًا: من حرية التعبير إلى الإرهاب المعنوي
حرية الرأي والتعبير حق دستوري لا خلاف عليه، لكن ما نشهده اليوم هو انزلاق خطير من التعبير إلى الإرهاب المعنوي:
تكفير سياسي وأخلاقي لكل رأي مخالف.
حملات تشهير منظمة.
محاكم تفتيش رقمية تُمارَس باسم “الرأي العام”.
تخوين أشخاص ومؤسسات دون دليل أو مسؤولية.
هذا السلوك لا يندرج تحت أي قيمة ديمقراطية، بل يقترب من سلوك العصابات التي تفرض رأيها بالقوة المعنوية لا بالحجة.
رابعًا: البعد القانوني… حين تتحول الفوضى إلى جريمة
القانون لا يحمي الرأي حين يتحول إلى:
تحريض.
تشويه سمعة.
نشر أخبار كاذبة.
المساس بالأمن المجتمعي والسلم الأهلي.
واستخدام المنصات الرقمية كأداة منظمة لتقويض الثقة العامة، أو التحريض ضد الدولة ومؤسساتها، أو تكفير المجتمع سياسيًا وأخلاقيًا، ليس حرية رأي، بل سلوك مجرَّم يستوجب المساءلة وفق أحكام القانون.
خامسًا: الإعلام بين المسؤولية والاختطاف
المشكلة لا تكمن فقط في هذه المجموعات، بل أيضًا في:
ضعف المحتوى الإيجابي المنظم.
غياب الرواية الوطنية المتماسكة في الفضاء الرقمي.
ترك الساحة الإعلامية الرقمية دون إدارة واعية.
فحين يغيب الإعلام المسؤول، يملأ الفراغ خطاب الفوضى، وحين لا تُدار المعركة على الوعي، تُخسر دون إطلاق رصاصة واحدة.
خاتمة: الدفاع عن الأردن دفاع عن العقل
الأردن لا يحتاج إلى تلميع زائف، لكنه يستحق نقدًا وطنيًا مسؤولًا لا خطاب كراهية.
والرأي العام الحقيقي لا يُبنى بالصراخ ولا بالتخوين ولا بالتكفير، بل بالعقل، والوقائع، والاختلاف المحترم.
إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس أزمة سياسية عابرة، بل محاولة ممنهجة لاختطاف وعي المجتمع، وتحويل منصات التواصل من أدوات تواصل إلى أدوات هدم.
والتصدي لذلك واجب وطني، إعلامي، قانوني، وأخلاقي… قبل أن ندفع جميعًا ثمن الصمت.
المحامي طارق ابو الراغب


















