ضرار البستنجي :- داعش مجدداً! .. من فتح "القمقم"؟

تحتاج الأطراف المشتبكة مع الملف السوري وعليه إلى فرض عنوان جديد إلى المعادلة يخلط الأوراق ويفكفك الاستعصاءات في العناوين العميقة، فاستُحضر ملف "محاربة الإرهاب وداعش” مجدداً، حيث ينشد كل طرف تأمين ماتعثّر من مصالح ومطامع وتعظيم ماتحقق منها، فضلاً عن الاقتراب خطوة نحو فرض مقاربته الخاصة لشكل سورية الجديدة. وهي مقدمات تنذر بتصعيد حقيقي قادم لن تنطفئ ناره قبل أن يفرض تغييرات هائلة على مستوى الجغرافيا والديموغرافيا وهوية سورية الجديدة، والوقائع في دول جوارها.
يحتاج الجولاني تعزيز شرعيته الخارجية بعد تراجعها داخلياً واقتصارها على "بيئة" بعينها، وبعد تعثّر مقاربته الخارجية المراهقة (صديق الجميع) في بلدٍ لايملك ترف "الحياد"، مايفرض حاجته إلى إثبات قدرة على تنفيذ المهام الكبيرة لضمان البقاء، وإلى معركة يحسم من خلالها ملف التخلص من المجاميع المعطِّلة أو غير المرغوب بها في بنية حكمه العسكرية، ويقرّبه أكثر من ضالته في توفير "الأمان الوظيفي" الذي يحتاجه عبر تسويق نفسه كحليفٍ مباشر لسيد اللعبة؛ الأميركي، وبما يضمن انتقالاً آمنا عبر المحطات التي تمر بها قسراً التجارب المشابهة. وفي مضامين هذا تجاوزٌ لشروط اللعبة التي تنيط ملفه بالوكلاء الأقليميين فحسب، بل وإخلالٌ بالتزامات كبرى "مستحَقة" تجاه الأطراف التي أوصلته إلى قصر الشعب في دمشق، والتي تتنافس على النفوذ والمكتسبات، ولايروق لأي منها اضطلاع سورية الجديدة بأدوار فارقة في مرحلة تاريخية عنوان البقاء فيها مرتبط بالهويات الجديدة وبالأوزان والأدوار المناطة، والتي يتنافس عليها المتنافسون.
داخلياً يحتفظ الجولاني بشعبية مريحة عبّرت عنها الحشود التي لبّت دعوته للتظاهر في الذكرى الأولى لسقوط سورية والأسد، على أن اقتصار المشاركة على بيئته الحاضنة فقط يمثّل تهديداً لشرعيته المطلوبة والكافية لتحقيق قفزات كبرى على مستوى هوية سورية واصطفافاتها وقراراتها الاستراتيجية، سيما في ضوء غياب الإنجازات الداخلية مادفع لاستحضار ذات العناوين الشعبوية في خطاب الذكرى الأولى؛ (شرعية "المحرِّر!" ومخلّص الناس من "نير النظام السابق")، فضلاً عن شرعية انفتاح العالم ورضا السيد الأميركي، وهي شرعية متناقصة بالضرورة، ولاتصمد أمام اسئلة الواقع المعاش وغياب الانجازات الملموسة واستحقاقات المشاريع الكبرى كالتقسيم وصراعات النفوذ الإقليمية.
يفرض ذلك مقاربةً مختلفةً تجاه شرائح المجتمع السوري القلقة والرافضة للأمر الواقع، تحول دونها سطوة القوى المتطرفة التي امتطاها الرجل لتحقيق مشروعه، مايجعله بحاجة شركاء يضطلعون بالمهام التي يتعذر عليه القيام بها ويطمئِنون الشرائح القلقة التي بُدّد تأييدها التلقائي المبكّر خلال عام واحد من الحكم. على هذا الأساس ربما طُرحت بعض المخارج وتم تداول بعض الأسماء لقيادة البنية العسكرية الجديدة كمناف طلاس مثلاً، قبل ان تصطدم بعقلية الجولاني وبمترتّبات الهالة التي نُسجت حوله كزعيم أوحد، يؤكد ذلك إقصاؤه كل الأطراف التي انخرطت مبكراً بل ومثّلت (المعارضة السورية) في مختلف المحافل منذ العام 2011 ؛ سياسياً وعسكرياً، وبما يشمل اسماء وازنة على المستوى السياسي وعشرات الضباط المنشقين من أصحاب الرتب العالية والمؤهلين لدور يراه كثيرون "مستحقاً" في سورية الجديدة.
الاستعصاء الداخلي ليس عبثياً، هو وصفة مثالية لتكريس تقسيم سورية وتحويلها منطلقاً لإعادة تشكيل المنطقة على أساس الهويات الفرعية، يظهر ذلك في تسليم الجميع بحتمية إقرار صيغة "لامركزية"، وفي تزايد التأشير على عناوين خطيرة مثل (الطائف السوري) و"شرعية" تفرّد العناوين الدينية أو الطائفية بالتمثيل الاجتماعي.
يحتاج التركي بدوره خوض معركةٍ (شرعية!) داخل سورية؛ يعيد من خلالها استكمال سيطرته على المفاصل الهامة ويعطّل ماتيسّر من مشاريع منافسه الإقليمي،كيان الاحتلال، ويخلق في مسارها عوامل فارقة تخدم مقاربته في الملف الأكثر حساسيةً بالنسبة لأنقرة؛ "الجيب الكردي"، والذي يبدو أن مآلاته ستُحسم في هذه الجولة وسيجري ترسميها على الأرض.
إلى ذلك يمسك الأميركي أوراق اللعب في الملف السوري، وهو الأقدر على الاستثمار في (الإرهاب) وعناوينه، ويخدمه إشعال نار جديدة في سورية عنواناً لمرحلة أخيرة تكرّسه مجدداً مرجعاً لضبط الصراعات، وتسهّل عليه تكريس رؤيته لمستقبل سورية والملفات العالقة، وتمنحه مزيداً من عناصر الضغط على الأطراف المشتبكة، وتبرّد اندفاعة نتنياهو نحو حرق المراحل والتشويش على المشروع، وتفتح الأبواب لإضافة ساحاتٍ مثل لبنان والعراق في ظل تعثّر استكمال المشروع بذات النهج المتبع على مدار أكثر من عامين؛ وبمايضمن خفض التكاليف على كيان الاحتلال ويمنحه أريحيةً أكبر في استكمال مشروعه في الجنوب السوري.
هذا الفصل من الصراع على سورية قد يكون الفصل الأخير ماقبل استكمال تشكيل سورية الجديدة، فعنه ستتمخض عناوين الصيغة القادمة لمجموعة ملفات فارقة كخارطة نفوذ القوى الإقليمية المشتبكة، ومصير الصراع المحتدم على النفوذ، ومستقبل الملف الكردي؛ بل ومستقبل الجغرافيا السورية ككل، فضلاً عن المقاربة الاستعمارية الجديدة نحو لبنان والعراق ولاحقاً الأردن الذي يتحسس الخطر الكبير المزدوج؛ غرباً وشمالاً بالذات، في ظل مشاريع الكيان الواضحة وخطر الفوضى واشتعال النيران والمجاميع المتطرفة التي قد يجري استخدامها لتطبيق ضغط أكبر وإشغالٍ عن مواجهة مخططات العدو غرباً، مايفسّر ربما مشاركة سلاح الطيران الأردني في الضربة الأولى التي شنها "التحالف" فجر اليوم، والتي تركزت على مناطق في جنوب سورية بالذات.
الثابت إذا أن هناك من "أخرج المارد من القمقم"، وأن ذلك ليس عبثاً ولا حدثاً عابراً، بل هو العنوان الخطير لحقبة ماقبل إسدال الستارة على خارطة المنطقة بخطوطها الحالية، ومفجّر الهزة الكبرى الحتمية القادمة والتي ستولّد هزّات ارتدادية قد تشعل الكثير من الساحات، فالأكيد أن المشروع الكبير في المنطقة لم ينتهِ بعد، ولايبدو أنه سينتهي قبل أن يطال التغيير الكبير كل شيء وكل أحد.



















