أ.د ألون بن مائير يكتب :- استخدام ترامب المشين والمدمّر للعفو الرئاسي

إن استخدام ترامب المتهور والتعسفي لسلطته الرئاسية في العفو عن أي شخص يختاره، بغض النظر عن جريمته أو إدانته، يقوّض الثقة ويضعف سيادة القانون في الولايات المتحدة، كما ويقوّض مصداقيتها والتزامها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
لقد توقفت عن حصر عدد الخطوط الحمراء الأخلاقية التي تجاوزها ترامب منذ عودته إلى منصبه في يناير الماضي. لقد أتقن فن استغلال سلطة منصبه لخدمة نرجسيته المريضة وتعطشه للسلطة بطرق لا حصر لها. الرئاسة بالنسبة له هي الوسيلة التي يستطيع من خلالها إثراء نفسه وممارسة السلطة كيفما شاء دون عقاب. ومن المأساوي أنه لا يكترث للعواقب المروعة لأفعاله المشينة، سواء على المدى القريب أو البعيد، محليًا ودوليًا. إن العفو عن هذا العدد الكبير من الأشخاص بشكل تعسفي، بغض النظر عن طبيعة جرائمهم ودون مراعاة سيادة القانون، يتماشى مع العديد من أوامره التنفيذية الفظيعة التي لا تهدف إلاّ إلى إشباع غروره الأعمى وتأكيد نزعته الإستبدادية.
تخيّلوا، في اليوم نفسه الذي عاد فيه إلى منصبه في 20 يناير 2025، عفا عن أكثر من 1500 من المتمردين الذين هاجموا مبنى الكابيتول في 6 يناير 2021، والذي حرض عليه بنفسه – وهو هجوم غير مسبوق في التاريخ الأمريكي. تم اقتحام المبنى ونهبه، وقُتل أربعة من مثيري الشغب وضابط شرطة من شرطة الكابيتول في 6 يناير أو بعده مباشرة، كما انتحر أربعة ضباط شرطة آخرين من شرطة الكابيتول وشرطة العاصمة. وبينما كان الغوغاء يطالبون بإعدام نائبه، مايك بنس، كان ترامب، بابتسامة خبيثة، يشاهد الهجوم العنيف على مبنى الكابيتول على شاشة التلفزيون لمدة أربع ساعات قبل أن يوافق على دعوة الغوغاء لإنهاء هجومهم والعودة إلى منازلهم.
هنا نجد حالةً فريدةً في سجلات تاريخ رئاسة الولايات المتحدة، حيث قام رئيسٌ في منصبه وقد عُزل في نفس الوقت من منصبه من قبل مجلس النواب في 13 يناير 2021 بتهمة التحريض على التمرّد، بالعفو عن المجرمين المدانين الذين انصاعوا لأهوائه الجامحة. علاوةً على ذلك، خلال الأشهر الإحدى عشر الماضية وحدها، أصدر ترامب عفواً شاملاً عن 74 شخصاً وخفف أحكام 15 آخرين.
شرعية العفو الرئاسي
منح واضعو الدستور الرئيس سلطة العفو عن أي شخص لأسباب مشروعة و/أو أخلاقية عديدة. ومع ذلك، لم يكن المقصود قط أن تُمارس هذه السلطة بشكل تعسّفي لخدمة أجندة الرئيس الشخصية. وعند دراسة جميع قرارات العفو التي أصدرها ترامب، لا يندرج أي منها ضمن الفئات التي يسمح بها أو يبررها المنطق الأخلاقي السليم.
ومن بين الأسباب العديدة المبررة لمنح العفو: تصحيح خطأ قضائي عندما توجد أدلة تشير إلى أن النظام القضائي كان مخطئًا وأن شخصًا ما أُدين ظلمًا؛ إظهار الرحمة أو التعاطف في الحالات التي قضى فيها شخص ما بالفعل عقوبة طويلة وأُعيد تأهيله بشكل واضح؛ ولأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، حيث يمكن أن يُسهم العفو في رأب الصدع السياسي أو تحقيق منفعة اجتماعية أوسع.
علاوة على ذلك، عندما تكون القوانين قاسية للغاية، تبرز الحاجة إلى العفو عن الأفراد عن جرائم محددة لتصحيح ما قد يُنظر إليه على أنه ظلم. عندما يُلغى تطبيق قانون ما أو يصبح قديمًا، وكان شخص ما قد أُدين بموجبه، يمكن للعفو أن يُصحح هذا التناقض التاريخي.
ومن الأسباب الأخرى أنه عندما يُحكم على أشخاص بموجب قواعد قد تغيرت لاحقًا، مثل جرائم الماريجوانا التي لم تعد تُعد جرائم في العديد من الولايات، يمكن للعفو أن يُصحح هذا الخلل.
أما بالنسبة لترامب، فلا توجد أي معايير قانونية أو أخلاقية يلتزم بها عند اختيار من يعفو عنه. على سبيل المثال، في أكتوبر/تشرين الأول 2025 أصدر ترامب عفوًا عن تشانغبن تشاو بتهمة غسل الأموال المتعلقة بالعملات المشفرة. تشاو هو أحد مؤسسي منصة تداول العملات المشفرة؛ وفي سعيه للحصول على العفو، أبرمت شركته صفقات تجارية مع شركة ترامب الناشئة في مجال العملات المشفرة والتي جنى منها ترامب وعائلته مئات الملايين من الدولارات. فبكلّ بساطة، ضحّى ترامب بسيادة القانون والعدالة في أمريكا من أجل الإثراء الشخصي جهارًا نهارًا.
ومن الأمثلة الأخرى على قرارات العفو المثيرة للجدل التي أصدرها ترامب، عفوه في ديسمبر/كانون الأول 2025 عن الرئيس الهندوراسي السابق خوان أورلاندو هيرنانديز المدان بالإتجار بالمخدرات. ادّعى هيرنانديز أنه كان ضحية اضطهاد من بايدن، وهو ما أكدته المتحدثة باسم ترامب، كارولين ليفيت، في إعلانها عن العفو. وبغض النظر عما قد يكون دفع ترامب للعفو عنه، فإن حقيقة عفوه عن مجرم كهذا في الوقت الذي تقوم فيه البحرية الأمريكية بإغراق قوارب يُزعم أنها محملة بالمخدرات من فنزويلا والمتجهة إلى الولايات المتحدة، هي قمة النفاق.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2025، أصدر ترامب عفوًا عن النائب عن ولاية تكساس، هنري كويلار (ديمقراطي)، وزوجته بعد إدانتهما بالرشوة والتآمر. زعم ترامب أن إدارة بايدن اضطهدت كويلار بسبب انتقاده لسياسات الحدود. ويبدو أن ترامب كان يعوّل على دعم كويلار لسياسته المتعلقة بالهجرة وغيرها من التشريعات الجمهورية، نظرًا لأن كويلار مدين له بحريته. وبعد أيام قليلة، انتقد ترامب بشدة “انعدام ولاء” كويلار له مقابل العفو، خاصةً بعد إعلان كويلار نيّته الترشح لإعادة انتخابه كديمقراطي.
الأثر السلبي للعفو التعسفي
هناك العديد من الأسباب التي تجعل العفو التعسّفي عن الأفراد أو الجماعات ذا أثر سلبي بالغ، حيث أنه يُقوّض الأساس الأخلاقي للنظام القانوني عند تطبيقه بشكل عشوائي. تُضعف مثل هذه الأوامر بالعفو مبدأ خضوع الجميع للقوانين نفسها، وتُضعف المساءلة إذا مُنح العفو بطريقة تبدو وكأنها تحمي الحلفاء أو الأصدقاء. يُضعف ذلك سيادة القانون وفكرة عدم محاسبة المسؤولين على سوء السلوك. كما أن الإفراط في استخدام سلطة العفو، أو إساءة استخدامها ظاهريًا، قد يُقلل من الثقة ومن نزاهة النظام القضائي برمته.
إضافةً إلى ذلك، يُرسي ذلك سوابق؛ فإذا استخدم رئيسٌ ما العفو دون رادع، فإنه يُشجع الرؤساء اللاحقين على فعل الشيء نفسه، مما يُؤدي إلى انحدارٍ خطير يُنظر فيه إلى العفو على أنه محاباة سياسية بدلًا من كونه عملًا نادرًا من أعمال العدالة أو الرحمة. وأخيرًا، وبما أن سلطة العفو مسؤولية دستورية، فإن استخدامها دون دراسة متأنية قد يُضعف السلطة الأخلاقية للرئاسة ونزاهة المنصب الرئاسي ويُصعّب على الرؤساء اللاحقين استخدام هذه السلطة بشكل مشروع دون إثارة الشكوك.
الآثار الدولية
ربما لا يوجد ضرر أكبر على الولايات المتحدة نتيجةً لأوامرعفو ترامب المُشينة من تأثيرها السلبي على أصدقائنا وحلفائنا. إن استخدام ترامب الشخصي والتعسّفي للعفو يُقوّض تصورات سيادة القانون الأمريكية ومصداقيتها، مما يُؤدي بدوره إلى تآكل الثقة والتنسيق والنفوذ، لا سيما مع حلفائنا الديمقراطيين.
فعندما يُصدر الرئيس عفواً متكرراً عن حلفاء سياسيين، أو مسؤولين سابقين، أو شخصيات مرتبطة، على سبيل المثال، بجهود قلب نتائج الإنتخابات، ينظر حلفاؤنا إلى الولايات المتحدة على أنها أقل التزاماً بالعدالة النزيهة، وهذا يُشير فعلياً إلى أن المقربين من الرئيس يُمكنهم ارتكاب الجرائم دون عقاب. يُقوّض هذا صورة الولايات المتحدة ويُضعف سلطتها الأخلاقية في توجيه الآخرين بشأن سيادة القانون.
إن العفو الممنوح لسياسيين متهمين بالعمل كعملاء لحكومات أجنبية، مثل السيناتور بوب مينينديز، الذي اتُهم بتلقي رشاوى من رجال أعمال على صلة بمصر، يجعل دبلوماسية الولايات المتحدة في مكافحة الفساد تبدو منافقة ويُضعف موقف الولايات المتحدة من الأنظمة الفاسدة. وعندما تُمارس واشنطن ضغوطاً على شركائها لمقاضاة مرتكبي جرائم الفساد بينما تُنقذ حلفاءها، فإنها تجعل الحكومات الحليفة أقل استعداداً للتعاون، على سبيل المثال، في مبادرات مكافحة غسل الأموال.
لقد لاقى العفو عن أفراد الخدمة العسكرية المتهمين أو المدانين بارتكاب جرائم حرب انتقادات من قادة عسكريين وخبراء يرون أنه يُشير إلى عدم جدية التعامل مع قانون النزاعات المسلحة. قد ينظر الحلفاء الذين يستثمرون رأسمالهم السياسي في محاسبة جرائم الحرب إلى قرارات العفو هذه على أنها تراجع من جانب الولايات المتحدة عن معايير السلوك العسكري، مما يعقد العمليات المشتركة ويضعف دعم آليات المساءلة الدولية.
إن استعداد ترامب للدعوة إلى العفو عن قادة أجانب يواجهون اتهامات خطيرة في بلادهم، مثل الرئيس البرازيلي السابق بولسونارو أو رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو – وهما حليفان فاسدان أو يميلان إلى الإستبداد – يعزز الإعتقاد بأن الولاء الشخصي له أهم من المعايير الديمقراطية. وهذا قد يشجع الحلفاء غير الليبراليين على قمع معارضيهم، متوقعين أن تتجاهل واشنطن ذلك، الأمر الذي قد يؤدي إلى توتّر العلاقات مع الشركاء الديمقراطيين الآخرين.
إذا اعتقد الحلفاء أن الأفراد المتورطين، على سبيل المثال، في محاولات قلب نتائج الإنتخابات، يمكن تبرئتهم بجرة قلم، فسيكونون أكثر حذرًا بشأن تبادل المعلومات الإستخباراتية وتقديم الدعم السياسي الحساس. إن قرارات العفو التعسّفية التي تخدم مصالح شخصية تُعمّق التصورات حول عدم استقرار السياسة الأمريكية وتقلل من تنسيق السياسات وتجعل الشركاء أقل استعدادًا لاتباع نهج الولايات المتحدة في التعاون في مجال إنفاذ القانون.
تدابير لكبح جماح قرارات العفو التعسفية لترامب
يمكن اتخاذ العديد من التدابير لكبح جماح قرارات العفو التعسفية وغير اللائقة التي يصدرها ترامب. إلا أن بعض هذه التدابير يتطلب موافقة الكونغرس، وقد لا تُقرّ نظرًا لهيمنة أعضاء الكونغرس الجمهوريين على كلا المجلسين حاليًا. وتشمل هذه التدابير عزل الرئيس، وتجريم استخدام قرارات العفو كرشوة وكجريمة فيدرالية صريحة، واشتراط موافقة مجلس الشيوخ على قرارات عفو محددة تنطوي على مخاطر عالية، واستخدام جلسات استماع رقابية فعّالة من الكونغرس لمراقبة قرارات العفو. ومع ذلك، لا تزال هناك عدة تدابير عملية يمكن لمسؤولي الحزب الديمقراطي في الكونغرس والولايات اتخاذها دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس، بما في ذلك:
• التنسيق مع المدعين العامين في الولايات، الذين لا يشملهم العفو الفيدرالي، لرفع دعاوى قضائية على
مستوى الولايات وإقامة دعاوى مدنية ضد مدانين مشمولين بالعفو.
• تشجيع اتخاذ إجراءات جنائية ومدنية حازمة على مستوى الولايات ضد حلفاء ترامب الذين يخالف سلوكهم
قوانين الولايات، إذ لا يُلغي العفو الفيدرالي المسؤولية أو العقوبات على مستوى الولايات.
• تقديم شكاوى إلى نقابات المحامين على مستوى الولايات والمستوى الفيدرالي ضد المحامين الذين ساهموا
في تدبير قرارات عفو فاسدة، والسعي إلى شطبهم من سجل المحامين أو فرض عقوبات عليهم من خلال
هيئات تأديبية مهنية مستقلة عن الكونغرس.
• إجراء تحقيقات جنائية مع وسطاء ترامب بتهم الرشوة أو عرقلة سير العدالة أو التلاعب بالشهود فيما يتعلق
بقرارات عفو محددة، بحجة أن قرارات العفو التي تم الحصول عليها بطرق غير مشروعة يمكن مقاضاة
مرتكبيها.
• رفع دعاوى قضائية أمام المحكمة الفيدرالية ضد قرارات العفو التي تنطوي على مخالفات جسيمة، بحجة
أنها تنتهك الإجراءات القانونية الواجبة، أو مبدأ المساواة أمام القانون، أو القوانين الجنائية، وبالتالي فهي
باطلة أو محدودة الأثر.
للأسف، لم نشهد بعد نهاية وابل قرارات العفو التعسّفية والمدمّرة التي أصدرها أو قد يصدرها ترامب لاحقا ً، ولا أفعاله المؤذية داخلياً وخارجياً، ولا انتهاكاته للدستور. ورغم أن العديد من تجاوزاته يمكن كبحها مؤقتاً من قبل المحاكم، إلا أنه في نهاية المطاف، لن تهدأ الأمور إلا إذا تمكن الديمقراطيون من انتزاع السيطرة على مجلسي النواب والشيوخ في انتخابات التجديد النصفي القادمة، عندها فقط ستبدأ شمس الرئيس الأكثر خزيا وقتامة في التاريخ الأمريكي بالغروب.



















