د عاطف نايف زريقات يكتب :- الحقيقة المُرّة

في أواخر عام 1964 انعقد المؤتمر الصهيوني السادس والعشرون في القدس الغربية برئاسة ناحوم غولدمان. هناك طُرحت مشكلة تراجع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل وانتهى المؤتمر إلى نتيجة واضحة الحدود الحالية لإسرائيل لم تعد تكفي لاستقبال مهاجرين جدد والمناخ الداخلي غير محفّز للهجرة فجاء رد ممثّلي الحكومة الإسرائيلية صريحاً إلى حد الوقاحة
أنتم زيدوا الهجره ونحن نوفر لكم الأرض .
أي أن التوسع ليس خياراً بل جزء من البنية الذهنية للمشروع الصهيوني منذ اللحظة الأولى .
وفي العام نفسه انعقد مؤتمر القمة العربية في القاهرة حيث تشكّلت القيادة العربية العسكرية المشتركة برئاسة الجنرال المصري علي علي عامر. وقد توصّلت اللجنة العسكرية إلى تشخيص خطير ٠
العرب غير قادرين على مواجهة إسرائيل قبل عام 1970 ويجب تجنب أي مواجهة قبل استكمال الاستعدادات
لغرض ذلك قدّمت ليبيا في عهد السنوسي خمسين مليون جنيه إسترليني، وقدّمت السعودية خمسةً وثلاثين والكويت خمسة عشر مليون جنيه لتسليح دول المواجهة ٠
ثم جاء مؤتمر القمة في الرباط عام 1965 ليؤكد التحذير ذاته عدم استفزاز إسرائيل قبل جاهزية الجيوش العربية.
إلا أن الممارسة العربية كانت شيئاً آخر فقد قام النظام السوري بعمليتين من الجولان كانتا الشرارة التي مهّدت لأزمة 1967. المزايدات السياسية، الرغبة في تسجيل نقاط على عبد الناصر والاستعراضات الحماسية حلت محل التخطيط والالتزام.
ويورد السفير أنور الخطيب في كتابه الطريق إلى القدس واقعة مؤثرة فقد ودع الرئيس عبد الناصر قبل مغادرته القاهرة سفيراً للأردن، وقال له عبد الناصر
“مشكلتي مع البعث لا مع الملك حسين
وفي الحوار أكد عبد الناصر لا حل للقضية الفلسطينية إلا الحل السياسي
وعندما سأله الخطيب من غيرك يستطيع قول هذا للشعب العربي؟
أجاب عبد الناصر بجملة كاشفة
أتريدني أن أقول لابن عكا ليس لك وطن؟
فخرج الخطيب متسائلاً في نفسه أمن أجل ذلك صُنِعت منظمة التحرير؟
(وقد أُقر انشاء منظمة التحرير في قمة القاهرة عام 1964).
ولم يكن الموقف الإسرائيلي أقل وضوحاً فقد نقل رئيسٌ فرنسي إلى بن غوريون خبراً ساراً بأن عبد الناصر مشغول بعمارة مصر ولا ينوي الحرب، فكان رد بن غوريون
هذا خبر سيئي لأن مشروعنا يقوم على التوسع
واضحٌ لمن يريد أن يفهم لكن العرب لم يفهموا أو لم يريدوا أن يفهموا
لم يقرأوا تصريحات قادتهم ولا قرأوا مشروع عدوهم، ولم يلتزموا بقرار قيادتهم العسكرية المشتركة غلبت المزايدات على العقول وغلبت الشعارات على الوقائع وغلبت الرغبة في إحراج الآخر على مصلحة الأمة ٠
ثم جاءت هزيمة حزيران والجيش المصري غارق في اليمن، منهكاً خاسراً خمسة عشر ألف قتيل وسبعين ألف جندي منتشر هناك. والأدهى أن حرب اليمن حُلّت مشكلتها بعد الهزيمة وكأن الدم العربي كان يمكن صرفه في معارك جانبية بلا حساب ٠
البعد الأخطر في منطق القرار العربي هو بأن القرارات الكبرى في العالم تُبنى على حسابات دقيقة وموازين قوى وجغرافيا واقتصاد وتحالفات أما في العالم العربي آنذاك وما زال هذا ينسحب على واقعنا الان فقد كان القرار العسكري والسياسي محكوماً بثلاث علل
1. الارتجال بدل التخطيط.
2. المزايدة بدل العقلانية.
3. الشعار بدل الاستراتيجية.
من هنا تأتي المقارنة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي فقد أدخل بلاده في حرب مدمرة كان يمكن تجنبها بدون حسابات الربح والخسارة وموازين القوى وواقع اوكرانيا السكاني
وهكذا تتشابه الأخطاء رغم اختلاف الأزمنة والخرائط
بورقيبة… الصوت الذي سبق زمنه
لا يمكن قراءة تلك المرحلة دون التوقف عند خطاب الحبيب بورقيبة في أريحا عام 1965 عندما خاطب العالم العربي بمرارة وواقعية قائلاً “لا تنتظروا المعجزات
ودعا إلى قبول تقسيم فلسطين كمرحلة أولى لحفظ ما يمكن حفظه لانه كان على معرفه بالمخطط الصهيوني بالتوسع ووضع العرب وضعفهم وخلافاتهم
فكان الرد قاسياً مظاهرات وهتافات يا غدّار… يا بائع الوطن بالدينار
لكن الرجل كان يرى ما لا يريد الآخرون رؤيته العواطف لا تكسب المعارك ولا تصنع الدولة.
خلاصة مؤلمة جداً لكنها ضرورية
التاريخ ليس سجلاً للعَظمة فقط بل مرآة للأخطاء أيضاً
وقد دفعت الأمة العربية ثمن الارتجال وثمن التهور وثمن الخلافات الداخلية بأبهظ ما يمكن أرض وكرامة، ومستقبل
وإذا لم يجرؤ العرب على مواجهة حقيقة ماضيهم فسيبقون أسرى أخطائه ٠
وإذا لم يتعلموا من هزيمة 1967 فسيتكرر وقوعهم في نسخ جديدة منها وعلى مستويات أخطر
كما قال سعد زغلول قبل قرن مافيش فايدة غطيني يا صفية
وكما قال الأردنيون لاحقاً بمرارة ساخرة غطّيني يا كرمة العلي
لكن الحقيقة المرة ليست دعوة لليأس بل دعوة لليقظة
فالأمم لا تنهض بالإنكار بل بالاعتراف والمراجعة والشجاعة في قول ما لا يريد أحد سماعه ٠.



















